في حوار مع إحدى المجموعات حول نازحي منطقة جرف الصخر السنية شمال محافظة بابل (يصل عددهم إلى نحو 100 ألف نسمة من السنة العرب)، التي منع اهلها من العودة اليها بشكل قطعي فقط لانهم من السنة العرب. سوغت شخصية قانونية معروفة هذا الإجراء بالقول: «اهالي جرف الصخر السنة كانوا غافلين على وجود داعش، ووفقاً للقاعدة القانونية التي تقول «ذو الغفلة حكمه حكم السفيه» لذا على القوات الأمنية ان تتريث بإرجاعهم لحين ثبات عدم الغفلة لديهم»! لكن آخر، وهو مقرب من إحدى الميليشيات النافذة، كان أكثر صراحة في التعبير عن موقفه، فأهالي جرف الصخر السنة بالنسبة اليه «إرهابيون بالطبع فقط لانهم من السنة العرب»، فضلا عن ان «جرف الصخر السنية منطقة زراعية عقودها منتهية منذ سنين وليس لهم في تلك المنطقة أي وجود قانوني»! لينتهي إلى تقديم سبب جوهري لمنعهم من العودة وهو أن «أهالي المسيب والحسينية والسدة (وهي مناطق ذات غالبية شيعية) يرفضونهم»!
تمت استعادة السيطرة على منطقة جرف الصخرالسنية بشكل نهائي في تشرين الاول/ أكتوبر 2014، وبعد ذلك بأيام صدر قرار رسمي من مجلس محافظة بابل بتاريخ 29 من الشهر نفسه، يقضي بمنع أي نازح من العودة إلى جرف الصخر السنية لمدة ثمانية أشهر، بحجة تطهير المنطقة من العبوات الناسفة وتفكيك الدور المفخخة، على ان تتم عودة العوائل النازحة بعد ذلك. ولكن مجلس المحافظة نفسه أكد في نيسان/ أبريل 2017، أي بعد مرور أكثر من 30 شهرا على استعادة المنطقة بأن «عودة نازحي جرف الصخر السنة مرهونة بإعادة البنى التحتية وإزالة الألغام»! ويحظى هذا الرفض الرسمي لعودة النازحين، بغطاء صريح يوفره الفاعل السياسي الشيعي المهيمن على القرار السياسي والعسكري والأمني في الدولة العراقية! في ظل تواطؤ ضمني من المجتمع الدولي، وبضمنه بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)! ففي التقرير الأخير الخاص بأوضاع حقوق الإنسان الذي تصدره هذه البعثة (تموز 2016) لم ترد أي إشارة إلى مسألة جرف الصخر السنية، أو إلى بقية المناطق التي يمنع النازحين من العودة إليها سوى عبارة مرسلة سريعة في الملخص التنفيذي بـالقول: «لا تزال هناك الكثير من العقبات تحول دون العودة الآمنة والكريمة للنازحين بما يتماشى مع معايير حقوق الانسان والمعايير الانسانية الدولية»! بل ان الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش لم يزد في إحاطته في مجلس الامن في 22 مايو/ أيار 2017 عن التعبير عن قلقه بشأن ما أسماه «تأخير عودة النازحين إلى مناطق تم تحريرها منذ أمد بعيد مثل منطقة جرف الصخرالسنية أو أماكن في محافظة ديالى» من دون أية إشارة إلى أن هناك قرارات رسمية مغطاة سياسيا تمنع هذه العودة، او اتفاقات «رسمية» تفرض شروطا «مذلة وقاسية وذات طبيعة طائفية» للسماح بعودة النازحين، كما حدث في مناطق يثرب وعزيز بلد في محافظة صلاح الدين!
إن مسألة التغيير الديمغرافي المتعلقة بالصراع على الجغرافيا ليست مرتبطة عمليا بلحظة تنظيم الدولة ومحاولة الاطراف جميع الاستفادة منها لتفرض وقائع جديدة على الأرض بالقوة، بل هي امتداد لعمليات منهجية ذات طبيعة طائفية (قومية ودينية ومذهبية) بدأت بعد الاحتلال في العام 2003، وكانت تهدف إلى تصنيع خطوط تماس تعزل العراقيين فيما بينهم على أساس الهويات الفرعية الطائفية، ضمن مناطق محددة صافية هوياتيا. فقد شهدت بغداد وكركوك والبصرة بشكل خاص عمليات تهجير للسنة العرب قسري وابادة جماعية بداية من لحظة الاحتلال، وكانت لحظة تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في شباط/ فبراير 2006 على يد ميليشيات شيعية فرصة استغلتها الحكومات الشيعة لتكثيف عمليات الابادة الجماعية بحق السنة العرب مستغلين الغطاء الشعبوي الذي توفر لذلك حينها، تحديدا في بغداد. ومن الواضح أن الفاعلين أنفسهم يحاولون استغلال لحظة تنظيم الدولة لتوسيع نطاق هذا التغيير الديمغرافي ليشمل محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى والانبار وكركوك هذه المرة، في إطار خرائط ما بعد تنظيم الدولة التي ترسم على الارض.
الخطير هنا هو التواطؤ الدولي مع هذه العمليات المنهجية، التي تجري بشكل علني، وبغطاء رسمي! ولعل ما حدث في سوريا خلال السنتين الماضيتين من عمليات «تهجير السكان» يؤشر هذه الحقيقة بشكل صارخ. فالجميع على إطلاع تفصيلي بما يجري على الأرض، ولكن لا أحد منهم يعترض على ذلك! الولايات المتحدة الأمريكية كانت شاهدا صامتا على ما جرى في بغداد على سبيل المثال من عمليات تغيير ديمغرافي واسعة النطاق في منطقة المدائن جنوب شرق بغداد في العام 2005 ولم تحرك ساكنا، وفعلت الشيء نفسه مع التغيير الديمغرافي الذي جرى لاحقا في منطقة النهروان. وبعد حادثة سامراء، غضت الولايات المتحدة طرفها بشكل كامل عن عمليات التغيير الديمغرافي التي كانت تجري في بغداد بتواطؤ حكومي فاضح، وعلى أعلى المستويات. بل تم استخدام «خطة فرض القانون» التي أعلنها رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي في 14 شباط/ فبراير 2007، وتضمنت توزيع 50 ألف عسكري عراقي بدعم من 35 ألف جندي أمريكي، لتكريس ما تم، ومحاولة استكمال «تصفية» بعض البؤر التي لم يتم حسمها قبل ذلك! وكان النموذج الاوضح هو ما حدث في منطقة البياع وحي العامل في قاطع الرشيد جنوب غرب بغداد. فقد تم نشر قوات اللواء الأول من الفرقة الثانية التابعة للبيشمركة الكردية في شمال وغرب هذا القاطع، ولكن التوتر بين هذا القوات وعناصر الميليشيات الشيعية ادى بعد مرور قرابة ثلاثة أشهر إلى إبدال قوات البيشمركة بقوات مغاوير الداخلية مما أدى إلى إندلاع موجة من القتل خارج إطار القانون والتهجير القسري لأسباب طائفية. وكل هذا كان يتم تحت بصر وسمع القوات الأمريكية! واليوم عندما يتم مناقشة المبعوثين الرسميين الأمريكيين، وعلى اعلى المستويات، حول هذه المسألة، لا يجد سوى كلام دبلوماسي عبثي عن الثقة بالحكومة وإجراءاتها بهذا الصدد!
في النهاية لا يمكن فصل عمليات التغيير الديمغرافي الممنهجة بحق السنة العرب التي تجري حاليا، عن عمليات التهجير واسعة النطاق التي تمت في الاعوام 2006 و2007، 2014و 2016و 2018 وعمليات التهجير المحدودة قبلها وبعدها. كما لا يمكن الفصل بين عمليات التغيير الديمغرافي هذه وطبيعة الصراع السياسي في المنطقة. وما لم يتدخل الفاعل الدولي ويفرض توافقات الحد الادنى سوف يبقى التغيير الديمغرافي بحق السنة العرب «سلاحا» فاعلا في حرب الابادة الجماعية المستمرة بحق السنة العرب.
د. يحيى الكبيسي